الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين .
فهذا باب من أجل الابواب الموصلة بالاتسبصار وبالاسترشاد للتعرف الى الحكيم العلّام , فبالمضي قدماً يزداد العبد خضوعاً وانكساراً للكريم المتعال , مع ما اودعه الله في الخلق من عظيم حكمته ,وتدبير خلقه , ودقة نظمه , فسبحانه من مليكٍ مقتدر .
فيزداد العبد هيبةً له , وتعظم عليه معصيته , وتخف جوارحه في طاعته والانكباب على الحسنات ليكفر بها السيئات ..
فمتى تعرف المخلوق على الخالق عظم ذلك في صدره وباشر العلم مع العمل . وان شرف العلم بشرف المعلوم , وهو التعرف على الحكيم وحكمته
فان ذلك يورث التفويض الى من يعلم عواقب الامور , والرضا بما يختاره ويرتضيه , والتسليم والانقياد لمن تعرف على جوانب من الحكمة والتعليل في افعال العليم الحكيم
"من تأمل مبتداه ومنتهاه، وتفكّر في الدنيا ومصيرها، ونظر في السموات وأنجمها، والأرض وما فيها وما عليها؛ ظهر له شيءٌ من عظمة الخالق وحكمته تبارك وتعالى. فمخلوقاته - تعالى - تسير في انتظام، ولها ابتداءٌ وانتهاء على وفق حكمته وإرادته، ومن أسمائه الحسنى - جلّ في علاه - الحكيم {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وقد ورد هذا الاسم الجليلُ في القرآن أربعًا وتسعين مرة، وهو متضمنٌ لصفةِ الحكمة التي يتصف بها ربُنا جل جلاله.
والحكيم: هو الذي لا يقولُ ولا يفعلُ إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف ربنا - جلّ جلاله - بالحكمة؛ لأنَّ أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهرُ الفعلُ المتقن السديدُ إلا من حكيم.
إن الله - تبارك وتعالى - حكيم فلا يخلق ولا يأمر عبثًا وسدى وباطلاً؛ بل له المرادُ فيما أراد، وأفعاله صادرةٌ عن حكمةٍ بالغة، ومصلحةٍ عظيمة، وغايةٍ حميدة.
وكمالُ حكمته - جلّ شأنه - يقتضي كمالَ علمه المحيط بكل شيء كما قال - سبحانه -: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشُّورى: 12]، {إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]، وقال - سبحانه -: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] ولذا جمع بين الصفتين - العلم والحكمة - في آيات كثيرة فقال - سبحانه -: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
ظهرت حكمتُه البالغة في خلقه، خلقهم فأحكم خلقهم، وصوّرهم فأحسن صورهم، وأبدع الكون ورتّبه أكمل ترتيب، ونظّمه أجمل تنظيم، ومنح كلّ مخلوق شكله اللائق به فأبدع أيما إبداع.
قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الإحكام لخلقِ الأشياء إنما ينصرفُ إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها؛ إذ ليس كلُ الخليقةِ موصوفًا بوثاقة البُنية، وشدةِ الأسر، كالبعوضة والنملة وما أشبههما من ضعاف الخلق إلا أن التدبير فيهما، والدَّلالة بهما على كون الصانع وإثباته ليس بدون الدَّلالة عليه بخلق السموات والأرض والجبال وسائر معاظم مخلوقاته. وكذلك هذا في قوله - جل وعزّ -: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسنِ الرائق في المنظر؛ فإن هذا معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان. وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحبَّ أن ينشئه عليه، وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها؛ كقوله - تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
فما من شيء خلقه الله - تعالى - إلا وأحسن خلقه، وأتم صنعه على ما يريده، تبارك وتعالى.
وما خلق هذا الخلق العظيم، والأمم الكثيرة إلا لحكمة عظيمة، وغايةٍ جليلة تتمثل في عبادته وحده لا شريك له، ومن ثم امتحان عباده وابتلائهم بالشرائع لينظر كيف يعملون {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27].
وحكمته البالغة ظاهرةٌ فيما شرعه من الشرائع المشتملة على كل خير في الدنيا والآخرة. فأمره ونهيه يحتويان على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا، فما أمر الله تعالى بشيء إلا وفيه مصلحةٌ عاجلةٌ أو آجلةٌ أو كلاهما. وما نهى عن شيء إلا وفيه مفسدة عاجلةٌ أو آجلة أو كلاهما. وليس المرادُ بالآجل أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة؛ ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا.. وإنما المراد: أنَّ من التكاليف الشرعية ما قد يبدو فيه حرج، وإضرارٌ بالمكلفين، وتفويتُ مصالح عليهم؛ ولكن المتدبّر إذا تدبَّر في تلك التشريعات ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور. وتلك المصالح يُحصِّلها العباد إذا التزموا الأمر والنهي في الدنيا قبل الآخرة.
وقد جمع الله - تعالى - حكمته في خلقه، وحكمته في شرعه في قوله - تبارك وتعالى -: {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54]..."[1]
فحكمة الله تعالى هي صفته القائمة به , وما تضمنته من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه في خلقه وأمره , التي فعل لأجلها بعلمه وعدله التامين , وهي كسائر صفاته من سمعه وبصره وقدرته وارادته , وعلمه , وحياته , وكلامه
بين يديك تعريفات مهمات ..
الحكمة ...
الحكمة بالكسر : العدل والعلم والحلم
فالحكمة من علم , ويقال : رجل حكيم : أي عدل حليم
وأصل الباب( الحاء , والميم , والكاف) أصل واحد وهو المنع , وهذا المنع يكون للاصلاح
ومن هذا الحُكم – بالضم - , وهو المنع من الظلم , وقيل للحاكم حاكم ,لأنه يمنع من الظلم
والحكم كذلك : القضاء , يقول حَكَم : أي قضى , وهذا المعنى راجع الى المنع أيضاً
فالقاضي مثل الحاكم يمنع من الظلم
وهو كذلك : الفصل أي الفصل بين الحق والباطل , والحاكم يفصل في الخصومات بين الناس ليظهر الحق , وهذا المعنى راجع الى المنع أيضاً فإنه يمنع الالتباس بينهما , وكل شيء منعته من الفساد فقد حكمته
وكذلك حكّمته , وحكّمت الرجل تحكيماً اذا منعته مما أراد
ويقال حكمت السفيه وأحكمته أي منعته , وأخذت على يده ....
فتعريفها بأنها العلم والعدل والحلم راجع الى المنع , اذ كل صفة من هذه الصفات تمنع صاحبها ما يضادها , فصفة العلم والحلم تمنع عنه الجهل في علمه وعمله وكل تصرفاته , وصفة العدل تمنع عنه الظلم , أو وضع الاشياء في غير مواضعها .
على أن تعريف الحكمة هنا بهذه الصفات الثلاث مشتركة بعطيها معاني أخرى غير مجرد معاني هذه الصفات
فليست الحكمة مجرد العلم أو العدل أو الحلم , بل تمام ذلك كله وزيادة .
فهي تتضمن صفة العلم وزيادة , اذ هي تمام العلم لتضمنها العلم بدقائق الأشيئا فضلاً عن جلائلها , أو لكونها عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم
ثم انها تدل مع تضمنها لهذه الصفة العمل بمقتضياتها , دل هذا تفسيرها بالصفتين الاخريين العدل والحلم الدالتين على الصواب في العمل , وهي أيضاً تتضمن تمام وضع الاشياء في مواضعها دل على هذا تفسيرها بالعدل , ودل على التمام كونها مفسرة مع ذلك بتمام العلم والحلم وهكذا .
وعلى هذا تضمنت الحكمة أمرين : حكمة علمية , وحكمة عملية ...
ف الحكمة ( إصابة الحق بالعلم والعمل ) ومنه قولهم : ان فلاناً لحكيم بيّن الحكمة : ( يعني به انه لبين الاصابة في القول والفعل )
أو هي ( وضع الشيء في موضعه ) , أو هي العلم بحقائق الاشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها )
ومن معاني الحكمة أيضاً : الاتقان , تقول أحكمت الشيء : أتقنته ( ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم )
ومن معانيها التوثيق ...
والاتقان والتوثيق يكونان في العمل , لكن العمل لا يكون متقناً موثقاً الا اذا كان صادراً عن علم تام به , وبأفضل طرقه وغاياته , وهذا دال أيضاً على اشتمال الحكمة للعلم والعمل ...
وبناءاً على ما مضى يكون معنى الحكيم , فالحكيم ( العالم , وصاحب الحكمة , والحكيم المتقن للأمور)
يقول البغوي –رحمه الله – ( والحكيم له معنيان : أحدهما : الحاكم وهو القاضي العلد , والثاني المحكم الامر كي لا يتطرق اليه الفساد )
ويقول الالوسي –رحمه الله – ( الحكيم : ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالاشياء على ما هي عليه , والاتيان من الافعال على ما ينبغي أو المبالغة في الاحكام وهي اتقان التدبير واحسان التقدير )
وكل هذه التعريفات تتضمن اثبات معنى مهم جداً في هذا الباب , وهو أنه إذا كان الحكيم من يضع الاشياء في مواضعها , أو أنه المحكم للأمور المتقن لها , أو أنه الذي يعلم بالأشياء على ما هي عليه , ثم يأتي من الافعال المناسبة لها , ونحو هذا من التعريفات , فإن هذا يتضمن اثبات أنه يراعي المصالح والغايات الحميدة بأفعاله , فيطلبها بها , فتعلل أفعاله بذلك القصد والطلب لها , وهذا من حيث أنه لما وضع الاشياء في مواضعها , فإنه راعى المواضع والاشياء وطلب لكل شيء ما يناسبه , وكذلك من حيث أن احكامه واتقانه يكون متضمناً ذلك الوضع , وكذلك من حيث أنه لما علم مصالحها ومنافعها عمل بمقتضى ذلك العلم فطلب تلك المصالح بأفعاله
فحكمة الله تعالى هي صفته القائمة به , وما تضمنته من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه في خلقه وأمره , التي فعل لأجلها بعلمه وعدله التامين , وهي كسائر صفاته من سمعه وبصره وقدرته وارادته , وعلمه , وحياته , وكلامه
العلة
المقصود بالعلة : هي ما لأجله وجد الشيء , أو ما لأجله يفعل الفاعل . فالمقصود بالعلة هنا العلة الموصوفة بالغائية , التي هي غرض الفاعل من فعله , والتي يتجه الى تحقيقها بواسطة وسائلها وأسبابها , وهي التي تتقدم على الفعل في الوجود الذهني , وتتأخر في الوجود الخارجي , فهي أول الفكرة وآخر العمل .
فالعلى الغائية اذاً هي : القصد الذي يظهر باديء ذي بدء في أعماق الارادة فيتوسط له بوسائط من الاعمال والانجازات الخارجية , بحيث يكون مآلها ظهور ذلك القصد ثمرة ونتيجة لها , ويكون دورها اذ تكون حبيسة في القصد والارادة هو الدفع الى التوسط والسعي , ثم يصبح دورها بعد تحقيقها في الخارج أن تكون ثمرة لذلك التوسط والسعي
الفرق بين الحكمة والعلة
بينهما فوارق وهي ما يلي :
1- الحكمة تدل على الصفة القائمة بالله تعالى , والتي تتضمن آثاراً ترجع الى الخلق وهي الحكم والمصالح العائدة اليهم , ويطلق على هذه الاثار أيضاً حكمة من باب اطلاق اسم الصفة على الأثر .
اما العلة فليست كذلك , فإنها لا تدل على الصفة القائمة به تعالى وانما تطلق على الغايات والمقاصد التي هي من آثار صفة الحكمة .
2- الحكمة أخص من العلة من ناحية الدلالة على جهة التعليل , فإنها تتضمن الدلالة على التعليل الغائي فقط , أما العلة من ناحة الدلالة على جهة التعليل , فإنها تتضمن التعليل بالفاعلية والتعليل بالغائية .
فالعلة تطلق على السبب وتطلق على الغاية , فيقال مثلاً : النار علة الاحراق , أي سببه , ويقال : النار لغلة الإحراق , اي لغاية الاحراق , فهو العلة الغائية للنار , فمصطلح العلة اذاّ أعم من مصطلح الحكمة من هذه الجهة
كذلك الحكمة أخص من العلة من جهة دلالتها على العاقبة المحمودة خصوصاً دون غيرها , فلا تكون الحكمة الا غاية محمودة , واذا أراد شراً فالعلة مذمومة .
3- الحكمة لفظ شرعي دون العلة , فالنصوص إنما وردت بفلك – الحكمة – واما لفظ العلة فهي مما عبر بها المتكلمون عن الحكمة , كلفظ الغرض والباعث والغاية ونحوها , والا فلم ترد في نص شرعي . [2]
-------------------------------
[1] حكمة الله في خلقه وأمره - إبراهيم الحقيل
[2] الحكمة والتعليل- للشهري.... تصرف
فهذا باب من أجل الابواب الموصلة بالاتسبصار وبالاسترشاد للتعرف الى الحكيم العلّام , فبالمضي قدماً يزداد العبد خضوعاً وانكساراً للكريم المتعال , مع ما اودعه الله في الخلق من عظيم حكمته ,وتدبير خلقه , ودقة نظمه , فسبحانه من مليكٍ مقتدر .
فيزداد العبد هيبةً له , وتعظم عليه معصيته , وتخف جوارحه في طاعته والانكباب على الحسنات ليكفر بها السيئات ..
فمتى تعرف المخلوق على الخالق عظم ذلك في صدره وباشر العلم مع العمل . وان شرف العلم بشرف المعلوم , وهو التعرف على الحكيم وحكمته
فان ذلك يورث التفويض الى من يعلم عواقب الامور , والرضا بما يختاره ويرتضيه , والتسليم والانقياد لمن تعرف على جوانب من الحكمة والتعليل في افعال العليم الحكيم
"من تأمل مبتداه ومنتهاه، وتفكّر في الدنيا ومصيرها، ونظر في السموات وأنجمها، والأرض وما فيها وما عليها؛ ظهر له شيءٌ من عظمة الخالق وحكمته تبارك وتعالى. فمخلوقاته - تعالى - تسير في انتظام، ولها ابتداءٌ وانتهاء على وفق حكمته وإرادته، ومن أسمائه الحسنى - جلّ في علاه - الحكيم {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وقد ورد هذا الاسم الجليلُ في القرآن أربعًا وتسعين مرة، وهو متضمنٌ لصفةِ الحكمة التي يتصف بها ربُنا جل جلاله.
والحكيم: هو الذي لا يقولُ ولا يفعلُ إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف ربنا - جلّ جلاله - بالحكمة؛ لأنَّ أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهرُ الفعلُ المتقن السديدُ إلا من حكيم.
إن الله - تبارك وتعالى - حكيم فلا يخلق ولا يأمر عبثًا وسدى وباطلاً؛ بل له المرادُ فيما أراد، وأفعاله صادرةٌ عن حكمةٍ بالغة، ومصلحةٍ عظيمة، وغايةٍ حميدة.
وكمالُ حكمته - جلّ شأنه - يقتضي كمالَ علمه المحيط بكل شيء كما قال - سبحانه -: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشُّورى: 12]، {إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]، وقال - سبحانه -: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] ولذا جمع بين الصفتين - العلم والحكمة - في آيات كثيرة فقال - سبحانه -: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
ظهرت حكمتُه البالغة في خلقه، خلقهم فأحكم خلقهم، وصوّرهم فأحسن صورهم، وأبدع الكون ورتّبه أكمل ترتيب، ونظّمه أجمل تنظيم، ومنح كلّ مخلوق شكله اللائق به فأبدع أيما إبداع.
قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الإحكام لخلقِ الأشياء إنما ينصرفُ إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها؛ إذ ليس كلُ الخليقةِ موصوفًا بوثاقة البُنية، وشدةِ الأسر، كالبعوضة والنملة وما أشبههما من ضعاف الخلق إلا أن التدبير فيهما، والدَّلالة بهما على كون الصانع وإثباته ليس بدون الدَّلالة عليه بخلق السموات والأرض والجبال وسائر معاظم مخلوقاته. وكذلك هذا في قوله - جل وعزّ -: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسنِ الرائق في المنظر؛ فإن هذا معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان. وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحبَّ أن ينشئه عليه، وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها؛ كقوله - تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
فما من شيء خلقه الله - تعالى - إلا وأحسن خلقه، وأتم صنعه على ما يريده، تبارك وتعالى.
وما خلق هذا الخلق العظيم، والأمم الكثيرة إلا لحكمة عظيمة، وغايةٍ جليلة تتمثل في عبادته وحده لا شريك له، ومن ثم امتحان عباده وابتلائهم بالشرائع لينظر كيف يعملون {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27].
وحكمته البالغة ظاهرةٌ فيما شرعه من الشرائع المشتملة على كل خير في الدنيا والآخرة. فأمره ونهيه يحتويان على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا، فما أمر الله تعالى بشيء إلا وفيه مصلحةٌ عاجلةٌ أو آجلةٌ أو كلاهما. وما نهى عن شيء إلا وفيه مفسدة عاجلةٌ أو آجلة أو كلاهما. وليس المرادُ بالآجل أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة؛ ولكن الآخرة جعلها الله جزاءً على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا.. وإنما المراد: أنَّ من التكاليف الشرعية ما قد يبدو فيه حرج، وإضرارٌ بالمكلفين، وتفويتُ مصالح عليهم؛ ولكن المتدبّر إذا تدبَّر في تلك التشريعات ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور. وتلك المصالح يُحصِّلها العباد إذا التزموا الأمر والنهي في الدنيا قبل الآخرة.
وقد جمع الله - تعالى - حكمته في خلقه، وحكمته في شرعه في قوله - تبارك وتعالى -: {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54]..."[1]
فحكمة الله تعالى هي صفته القائمة به , وما تضمنته من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه في خلقه وأمره , التي فعل لأجلها بعلمه وعدله التامين , وهي كسائر صفاته من سمعه وبصره وقدرته وارادته , وعلمه , وحياته , وكلامه
بين يديك تعريفات مهمات ..
الحكمة ...
الحكمة بالكسر : العدل والعلم والحلم
فالحكمة من علم , ويقال : رجل حكيم : أي عدل حليم
وأصل الباب( الحاء , والميم , والكاف) أصل واحد وهو المنع , وهذا المنع يكون للاصلاح
ومن هذا الحُكم – بالضم - , وهو المنع من الظلم , وقيل للحاكم حاكم ,لأنه يمنع من الظلم
والحكم كذلك : القضاء , يقول حَكَم : أي قضى , وهذا المعنى راجع الى المنع أيضاً
فالقاضي مثل الحاكم يمنع من الظلم
وهو كذلك : الفصل أي الفصل بين الحق والباطل , والحاكم يفصل في الخصومات بين الناس ليظهر الحق , وهذا المعنى راجع الى المنع أيضاً فإنه يمنع الالتباس بينهما , وكل شيء منعته من الفساد فقد حكمته
وكذلك حكّمته , وحكّمت الرجل تحكيماً اذا منعته مما أراد
ويقال حكمت السفيه وأحكمته أي منعته , وأخذت على يده ....
فتعريفها بأنها العلم والعدل والحلم راجع الى المنع , اذ كل صفة من هذه الصفات تمنع صاحبها ما يضادها , فصفة العلم والحلم تمنع عنه الجهل في علمه وعمله وكل تصرفاته , وصفة العدل تمنع عنه الظلم , أو وضع الاشياء في غير مواضعها .
على أن تعريف الحكمة هنا بهذه الصفات الثلاث مشتركة بعطيها معاني أخرى غير مجرد معاني هذه الصفات
فليست الحكمة مجرد العلم أو العدل أو الحلم , بل تمام ذلك كله وزيادة .
فهي تتضمن صفة العلم وزيادة , اذ هي تمام العلم لتضمنها العلم بدقائق الأشيئا فضلاً عن جلائلها , أو لكونها عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم
ثم انها تدل مع تضمنها لهذه الصفة العمل بمقتضياتها , دل هذا تفسيرها بالصفتين الاخريين العدل والحلم الدالتين على الصواب في العمل , وهي أيضاً تتضمن تمام وضع الاشياء في مواضعها دل على هذا تفسيرها بالعدل , ودل على التمام كونها مفسرة مع ذلك بتمام العلم والحلم وهكذا .
وعلى هذا تضمنت الحكمة أمرين : حكمة علمية , وحكمة عملية ...
ف الحكمة ( إصابة الحق بالعلم والعمل ) ومنه قولهم : ان فلاناً لحكيم بيّن الحكمة : ( يعني به انه لبين الاصابة في القول والفعل )
أو هي ( وضع الشيء في موضعه ) , أو هي العلم بحقائق الاشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها )
ومن معاني الحكمة أيضاً : الاتقان , تقول أحكمت الشيء : أتقنته ( ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم )
ومن معانيها التوثيق ...
والاتقان والتوثيق يكونان في العمل , لكن العمل لا يكون متقناً موثقاً الا اذا كان صادراً عن علم تام به , وبأفضل طرقه وغاياته , وهذا دال أيضاً على اشتمال الحكمة للعلم والعمل ...
وبناءاً على ما مضى يكون معنى الحكيم , فالحكيم ( العالم , وصاحب الحكمة , والحكيم المتقن للأمور)
يقول البغوي –رحمه الله – ( والحكيم له معنيان : أحدهما : الحاكم وهو القاضي العلد , والثاني المحكم الامر كي لا يتطرق اليه الفساد )
ويقول الالوسي –رحمه الله – ( الحكيم : ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالاشياء على ما هي عليه , والاتيان من الافعال على ما ينبغي أو المبالغة في الاحكام وهي اتقان التدبير واحسان التقدير )
وكل هذه التعريفات تتضمن اثبات معنى مهم جداً في هذا الباب , وهو أنه إذا كان الحكيم من يضع الاشياء في مواضعها , أو أنه المحكم للأمور المتقن لها , أو أنه الذي يعلم بالأشياء على ما هي عليه , ثم يأتي من الافعال المناسبة لها , ونحو هذا من التعريفات , فإن هذا يتضمن اثبات أنه يراعي المصالح والغايات الحميدة بأفعاله , فيطلبها بها , فتعلل أفعاله بذلك القصد والطلب لها , وهذا من حيث أنه لما وضع الاشياء في مواضعها , فإنه راعى المواضع والاشياء وطلب لكل شيء ما يناسبه , وكذلك من حيث أن احكامه واتقانه يكون متضمناً ذلك الوضع , وكذلك من حيث أنه لما علم مصالحها ومنافعها عمل بمقتضى ذلك العلم فطلب تلك المصالح بأفعاله
فحكمة الله تعالى هي صفته القائمة به , وما تضمنته من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه في خلقه وأمره , التي فعل لأجلها بعلمه وعدله التامين , وهي كسائر صفاته من سمعه وبصره وقدرته وارادته , وعلمه , وحياته , وكلامه
العلة
المقصود بالعلة : هي ما لأجله وجد الشيء , أو ما لأجله يفعل الفاعل . فالمقصود بالعلة هنا العلة الموصوفة بالغائية , التي هي غرض الفاعل من فعله , والتي يتجه الى تحقيقها بواسطة وسائلها وأسبابها , وهي التي تتقدم على الفعل في الوجود الذهني , وتتأخر في الوجود الخارجي , فهي أول الفكرة وآخر العمل .
فالعلى الغائية اذاً هي : القصد الذي يظهر باديء ذي بدء في أعماق الارادة فيتوسط له بوسائط من الاعمال والانجازات الخارجية , بحيث يكون مآلها ظهور ذلك القصد ثمرة ونتيجة لها , ويكون دورها اذ تكون حبيسة في القصد والارادة هو الدفع الى التوسط والسعي , ثم يصبح دورها بعد تحقيقها في الخارج أن تكون ثمرة لذلك التوسط والسعي
الفرق بين الحكمة والعلة
بينهما فوارق وهي ما يلي :
1- الحكمة تدل على الصفة القائمة بالله تعالى , والتي تتضمن آثاراً ترجع الى الخلق وهي الحكم والمصالح العائدة اليهم , ويطلق على هذه الاثار أيضاً حكمة من باب اطلاق اسم الصفة على الأثر .
اما العلة فليست كذلك , فإنها لا تدل على الصفة القائمة به تعالى وانما تطلق على الغايات والمقاصد التي هي من آثار صفة الحكمة .
2- الحكمة أخص من العلة من ناحية الدلالة على جهة التعليل , فإنها تتضمن الدلالة على التعليل الغائي فقط , أما العلة من ناحة الدلالة على جهة التعليل , فإنها تتضمن التعليل بالفاعلية والتعليل بالغائية .
فالعلة تطلق على السبب وتطلق على الغاية , فيقال مثلاً : النار علة الاحراق , أي سببه , ويقال : النار لغلة الإحراق , اي لغاية الاحراق , فهو العلة الغائية للنار , فمصطلح العلة اذاّ أعم من مصطلح الحكمة من هذه الجهة
كذلك الحكمة أخص من العلة من جهة دلالتها على العاقبة المحمودة خصوصاً دون غيرها , فلا تكون الحكمة الا غاية محمودة , واذا أراد شراً فالعلة مذمومة .
3- الحكمة لفظ شرعي دون العلة , فالنصوص إنما وردت بفلك – الحكمة – واما لفظ العلة فهي مما عبر بها المتكلمون عن الحكمة , كلفظ الغرض والباعث والغاية ونحوها , والا فلم ترد في نص شرعي . [2]
-------------------------------
[1] حكمة الله في خلقه وأمره - إبراهيم الحقيل
[2] الحكمة والتعليل- للشهري.... تصرف