إن الله جميل يحب الجمال
حب الجمال أمر فطري، قائم في بنية النفس الإنسانية[1]، ويعتبر وجوده دليلاً على سلامة الطبع وصحة الذوق واستقامة الفطرة. ولذا فهو لا يحتاج إلى تعهد ورعاية، أو لنقل: إنه لا يحتاج إلى كبير عناء في تعهده ورعايته.
ومع ذلك فإن المنهج الإسلامي، تقديراً منه "للجمال" وارتفاعاً بمنزلته إلى المكانة اللائقة به، قد عزز في النفس الإنسانية هذه المكانة بما أيده به من تكريم وتشريف، فكان وصفاً للعظيم الجليل - سبحانه - وكان محبوباً له، وكفى بهذا منزلة.
وفي هذا الفصل نحاول الوقوف على بعض تلك المؤيدات[2]، التي تعزز القيم الجمالية في النفس الإنسانية، والتي سجلها المنهج الكريم فأعطاها بذلك الأصالة والعراقة، فليست مستعارة من هنا وهناك، وليست مقتبسة من فلسفة أو علم جمال.. وأنى للفلسفة أو علم الجمال.. وكل المعارف الإنسانية أن تأتي بما جاء به من لا ينطق عن الهوى.
والمنهج الإسلامي إذ يضع هذه المؤيدات، إنما يؤكد رعايته للجمال وعنايته به، كما يبرهن على كمال هذا المنهج، وما هو بحاجة إلى برهان بعد قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ﴾[3].
إن الله جميل يحب الجمال:
جاء في الحديث عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس"[4].
وللحديث في صحيح الجامع الصغير أكثر من رواية منها:
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس".
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جميل يجب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".
وللحديث روايات أخرى كلها تتفق على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال"[5].
وهذا الجزء من الحديث يقرر أمرين:
• وصف الله تعالى بالجمال.
• حبه سبحانه وتعالى للجمال.
ونترك الكلام عن الأمر الأول لابن القيم رحمه الله قال:
"من أعز أنواع المعرفة، معرفة الرب - سبحانه - بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله، سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته... ومن أسمائه الحسنى "الجميل".
وجماله - سبحانه - على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء.
فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة.
وأما جمال الذات، وما هو عليه، فأمر لا يدركه سواه، ولا يعمله غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تَعرَّف بها إلى من أكرمه من عباده..
قال ابن عباس: "حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال".
فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال؟!
ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات"[6].
وأما الأمر الثاني، وهو حبه سبحانه وتعالى للجمال، فقد شرع للإنسان كل ما يوصله إليه، من نظافة في الظاهر والباطن، ومن تجمل كذلك في الظاهر والباطن، فإذا ما طبق الإنسان ما شرعه الله له، فإنه يأخذ بأسباب الجمال وعندئذ يكون محبوباً لله تعالى.
ونعود إلى ابن القيم، رحمه الله، ليوضح لنا هذا الجانب:
"إن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة، وآخره سلوك.
فيعرف الله - سبحانه - بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء.
ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ، والشعور المكروهة..
فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه"[7].
نخلص من هذا إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" يعد أكبر باعث للمسلم وحافز له، يدفعه لتلبية وتنفيذ ما يحبه الله تعالى فيسعى إلى تحقيق الجمال في كل شيء يتصف به ضمن حدود طاقته.
وبهذا يكون سعينا تلبية للفطرة، وتحقيقاً للعبادة، وذلك الوئام نوع آخر من الجمال.
[1] سبق الحديث عن فطرية الإحساس بالجمال في الجزء الأول من هذه الدراسة الظاهرة الجمالية في الإسلام ص 147 - 150.
[2] سبقت الإشارة إلى هذه المؤيدات في الجزء الثاني من هذه الدراسة ميادين الجمال ولكنا نوردها هنا بشيء من التفصيل لارتباطها الوثيق بالموضوع.
[3] سورة المائدة الآية [3].
[4] الحديث من رواية مسلم وأبي داود والترمذي. انظر جامع الأصول ج 10 رقم الحديث 8210. وهو عند مسلم في كتاب الإيمان: باب تحريم الكبر 1/ 93.
[5] ومن هذه الروايات ما جاء في مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يموت حين يموت، وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تحل له الجنة أن يريح ريحها ولا يراها. فقال رجل من قريش، يقال له أبو ريحانة: والله يا رسول الله إني لأحب الجمال وأشتهيه حتى إني لأحبه في علاقة سوطي، وفي شراك نعلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذاك الكبر، إن الله عز وجل جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس بعينيه" المسند 4/ 151 و 133 - 134.
[6] انظر كتاب الفوائد لابن القيم ص 234 - 236 طبعة دار النفائس. بيروت.
[7] المصدر السابق ص 240.
حب الجمال أمر فطري، قائم في بنية النفس الإنسانية[1]، ويعتبر وجوده دليلاً على سلامة الطبع وصحة الذوق واستقامة الفطرة. ولذا فهو لا يحتاج إلى تعهد ورعاية، أو لنقل: إنه لا يحتاج إلى كبير عناء في تعهده ورعايته.
ومع ذلك فإن المنهج الإسلامي، تقديراً منه "للجمال" وارتفاعاً بمنزلته إلى المكانة اللائقة به، قد عزز في النفس الإنسانية هذه المكانة بما أيده به من تكريم وتشريف، فكان وصفاً للعظيم الجليل - سبحانه - وكان محبوباً له، وكفى بهذا منزلة.
وفي هذا الفصل نحاول الوقوف على بعض تلك المؤيدات[2]، التي تعزز القيم الجمالية في النفس الإنسانية، والتي سجلها المنهج الكريم فأعطاها بذلك الأصالة والعراقة، فليست مستعارة من هنا وهناك، وليست مقتبسة من فلسفة أو علم جمال.. وأنى للفلسفة أو علم الجمال.. وكل المعارف الإنسانية أن تأتي بما جاء به من لا ينطق عن الهوى.
والمنهج الإسلامي إذ يضع هذه المؤيدات، إنما يؤكد رعايته للجمال وعنايته به، كما يبرهن على كمال هذا المنهج، وما هو بحاجة إلى برهان بعد قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ﴾[3].
إن الله جميل يحب الجمال:
جاء في الحديث عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس"[4].
وللحديث في صحيح الجامع الصغير أكثر من رواية منها:
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس".
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جميل يجب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".
وللحديث روايات أخرى كلها تتفق على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال"[5].
وهذا الجزء من الحديث يقرر أمرين:
• وصف الله تعالى بالجمال.
• حبه سبحانه وتعالى للجمال.
ونترك الكلام عن الأمر الأول لابن القيم رحمه الله قال:
"من أعز أنواع المعرفة، معرفة الرب - سبحانه - بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله، سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته... ومن أسمائه الحسنى "الجميل".
وجماله - سبحانه - على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء.
فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة.
وأما جمال الذات، وما هو عليه، فأمر لا يدركه سواه، ولا يعمله غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تَعرَّف بها إلى من أكرمه من عباده..
قال ابن عباس: "حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال".
فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال؟!
ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات"[6].
وأما الأمر الثاني، وهو حبه سبحانه وتعالى للجمال، فقد شرع للإنسان كل ما يوصله إليه، من نظافة في الظاهر والباطن، ومن تجمل كذلك في الظاهر والباطن، فإذا ما طبق الإنسان ما شرعه الله له، فإنه يأخذ بأسباب الجمال وعندئذ يكون محبوباً لله تعالى.
ونعود إلى ابن القيم، رحمه الله، ليوضح لنا هذا الجانب:
"إن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة، وآخره سلوك.
فيعرف الله - سبحانه - بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء.
ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ، والشعور المكروهة..
فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه"[7].
نخلص من هذا إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" يعد أكبر باعث للمسلم وحافز له، يدفعه لتلبية وتنفيذ ما يحبه الله تعالى فيسعى إلى تحقيق الجمال في كل شيء يتصف به ضمن حدود طاقته.
وبهذا يكون سعينا تلبية للفطرة، وتحقيقاً للعبادة، وذلك الوئام نوع آخر من الجمال.
[1] سبق الحديث عن فطرية الإحساس بالجمال في الجزء الأول من هذه الدراسة الظاهرة الجمالية في الإسلام ص 147 - 150.
[2] سبقت الإشارة إلى هذه المؤيدات في الجزء الثاني من هذه الدراسة ميادين الجمال ولكنا نوردها هنا بشيء من التفصيل لارتباطها الوثيق بالموضوع.
[3] سورة المائدة الآية [3].
[4] الحديث من رواية مسلم وأبي داود والترمذي. انظر جامع الأصول ج 10 رقم الحديث 8210. وهو عند مسلم في كتاب الإيمان: باب تحريم الكبر 1/ 93.
[5] ومن هذه الروايات ما جاء في مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يموت حين يموت، وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تحل له الجنة أن يريح ريحها ولا يراها. فقال رجل من قريش، يقال له أبو ريحانة: والله يا رسول الله إني لأحب الجمال وأشتهيه حتى إني لأحبه في علاقة سوطي، وفي شراك نعلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذاك الكبر، إن الله عز وجل جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس بعينيه" المسند 4/ 151 و 133 - 134.
[6] انظر كتاب الفوائد لابن القيم ص 234 - 236 طبعة دار النفائس. بيروت.
[7] المصدر السابق ص 240.