إن المطالع لتاريخ وسير الصحابة رضوان الله عليهم يجد حقيقية واضحة مشتركة لديهم جميعاً على يلتقون، ألا وهي محبتهم العظيمة لنبيهم، رجالهم ونسائهم على ذلك متفقون، واستحضار جميع صور محبتهم له - صلى الله عليه وسلم يستلزم ذكر سيرهم جميعاً، وهذا ما يضيق به الوقت بل الأجل، لذا سنتعرض لبعض من مظاهر ذلك الحب الكبير، فما لا يدرك كله لا يترك جله:
1- الدفاع عنه وحمايته وبذل النفس في ذلك:
يقول ابن القيم رحمه الله: (كان الصحابة يقونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يُصرعوا حوله).
ويوم اجتمع كفار قريش يريدون أن يضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكرٍ يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتركوا الرسول وتوجهوا إلى أبي بكر وضربوه بنعالهم، قال ابن هشام: وحرفوا نعالهم في وجهه حتى سقط مغشياً عليه، ما يعرف وجهه من أنفه - أي من شدة التورم - قال ثم حمل ما يشك في موته أحد - من شدة مالقي من الضر - قال: فلما أفاق كان أول ما قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخيرٍ كما تحب! قال: حتى أراه، فحمل يهادى بين رجلين فلما رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه وفرح رضي الله عنه وأرضاه.
وقال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، فذكر سعيد ابن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة، فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس؛ حتى خلصت الجراح إلّي، قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله، أقبل يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا، ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
وقد ترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يقع النبل في ظهره، وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل.
و انتهى أنس بن النضر - في غزوة أحد - عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد اتقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم، فقاتل؛ حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك، قال أنس بن مالك: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانه.
وغير ذلك كثير كثير.
وعنابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المِعول فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح، ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل، لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا اشهدوا أن دمهاهدرٌ ").
2- خوفهم من فراقه:
فمن أحب شيئاً خشي أن يفقده لذا كان الصحابة أشد ما يخشون فراقه صلى الله عليه وسلم أخرجأحمد عن معاذ بنجبلرضى الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشيتحتراحلته فلما فرغ قال: " يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أنتمربمسجدي هذا وقبري " فبكى معاذ جزعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الطبراني عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى أتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفتأنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلميرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).
3- حنينهم إليه، وشوقهم للقاءه:
لما ذهب بلال إلى الشام، قدم عمر الجابية فسأل المسلمون عمر أن يسأل لهم بلالًا يؤذن لهم، فسأله، فأذن يوماً، فلم ير يوماً كان أكثر باكياً من يومئذ، ذكراً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم. [سير أعلام النبلاء].
كما ثبت عن كثير منهم عند وفاتهم رضي الله عنهم قولهم: (غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه).
4- النبي أولاً وتفضيله عليه السلام على مَن سواه:
فقد أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما كان يوم أُحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم، استقبلت بهم أولاً، فلما مرَّت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أمامك، حتى دُفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب.
وفي رواية قالت: كل مصيبةٍبعدك جلل، أي هينة.قال ابن هشام: "الجلل يكون من القليل ومن الكثير، وهو ها هنا القليل".
وسئل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ).
5- التنافس في محبته:
فعن أسامة بن زيد عن أبيه قال: "اجتمععلي و جعفر و زيد بن حارثة فقال جعفر: أنا أحبكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال علي: أنا أحبكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال زيد: أناأحبكمإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله قال أسامة: فجاءوا يستأذنونه. فقال: أخرج فانظر من هؤلاءفقلت: هذا جعفر وعلي وزيد فقال: ائذن لهم فدخلوا، فقالوا: يا رسول الله من أحبإليك؟ قال: فاطمة، قالوا: نسألك عن الرجال فقال: " أما أنت يا جعفر فأشبه خلقك خلقي وأشبه خلقي خلقك وإنك مني وشجرتي، وأما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنا منكوأنتمني، وأما أنت يا زيد فمولاي ومني وإلي وأحب القوم إلي ".
قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم وبكوا.
6- محبة ما يحب صلى الله عليه وسلم:
فقد كان أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه يقول: (والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ أن أصل من قرابتي).
وقال عمر للعباس رضي الله عنهما: (أن تُسْلِم أحبّ إليَّ من أن يسلم الخطّاب؛ لأن ذلك أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأبيه: لم فضَّلْت أسامةَ عليَّ؟ فوالله ما سبقني إلى مشهد، قال: لأن زيدًا كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحبَّ إلى رسول الله منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي.
قال القاضي عياض: (فبالحقيقة من أحب شيئًا أحب كل شيء يحبه، وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدباء من يومئذ، وهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وابن جعفر أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم طعامًا مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ويصبغ بالصفرة إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل نحو ذلك).
7- حرصهم على سلامته من الأذى:
ومن ذلك قصة زيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى (التنعيم)، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهطاً من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان - حين قدم ليقتل -: أنشدك بالله - يا زيد - أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي!! فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ثم قتله نسطاس.
8- امتثال أمره: فالمحب لمن أحب مطيع.
ومن ذلك أن عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: " اجلسوا " فجلس مكانه خارجاً عن المسجد حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله ".
وعن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال: خطبت جارية من الأنصار فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: " رأيتها؟ " فقلت: لا، قال: " فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ". فأتيتها فذكرت ذلك لوالديهما، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقمت فخرجت، فقالت الجارية: علي الرجل، فوقفت ناحية خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر إليّ فانظر، وإلا فإني أُحرّج عليك أن تنظر، فنظرت إليها فتزوجتها فما تزوجت امرأة قط كانت أحب إلي منها ولا أكرم علي منها.
9- حرصهم على أن يكون أخر عهد لهم بالدنيا مس جسده المبارك:
فعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي صفوف المسلمين إذ لامس بطن سواد بن غزية بجريدة كانت بيده فقال سواد: لقد أوجعتني يا رسول الله!! فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريف وقال: " استقد مني يا سواد ". فأسرع سواد فاحتضن رسول الله ثم جعل يقبل كشحه، ثم قال: يا رسول الله، لقد ظننت أن هذا المقام هو آخر العهد بك، فأحببت أن يمس جلدي جلدك كي لا تمسني النار.
هذا غيض من فيض وإلا فإن سرد ذلك يطول، وأظن أن المعنى قد تقرر، وهو أن الصحابة قد أدوا الحق تجاه حب النبي صلى الله عليه وسلم ويبقى أداء هذا الحق معلق بذمتنا، فهل تظنون أن ذمتنا قد برأت تجاه هذا الحق وأدت واجب الحب تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم؟!
1- الدفاع عنه وحمايته وبذل النفس في ذلك:
يقول ابن القيم رحمه الله: (كان الصحابة يقونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يُصرعوا حوله).
ويوم اجتمع كفار قريش يريدون أن يضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكرٍ يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتركوا الرسول وتوجهوا إلى أبي بكر وضربوه بنعالهم، قال ابن هشام: وحرفوا نعالهم في وجهه حتى سقط مغشياً عليه، ما يعرف وجهه من أنفه - أي من شدة التورم - قال ثم حمل ما يشك في موته أحد - من شدة مالقي من الضر - قال: فلما أفاق كان أول ما قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخيرٍ كما تحب! قال: حتى أراه، فحمل يهادى بين رجلين فلما رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه وفرح رضي الله عنه وأرضاه.
وقال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، فذكر سعيد ابن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة، فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس؛ حتى خلصت الجراح إلّي، قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله، أقبل يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا، ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
وقد ترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يقع النبل في ظهره، وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل.
و انتهى أنس بن النضر - في غزوة أحد - عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد اتقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم، فقاتل؛ حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك، قال أنس بن مالك: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانه.
وغير ذلك كثير كثير.
وعنابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المِعول فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح، ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل، لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا اشهدوا أن دمهاهدرٌ ").
2- خوفهم من فراقه:
فمن أحب شيئاً خشي أن يفقده لذا كان الصحابة أشد ما يخشون فراقه صلى الله عليه وسلم أخرجأحمد عن معاذ بنجبلرضى الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشيتحتراحلته فلما فرغ قال: " يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أنتمربمسجدي هذا وقبري " فبكى معاذ جزعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الطبراني عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى أتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفتأنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلميرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).
3- حنينهم إليه، وشوقهم للقاءه:
لما ذهب بلال إلى الشام، قدم عمر الجابية فسأل المسلمون عمر أن يسأل لهم بلالًا يؤذن لهم، فسأله، فأذن يوماً، فلم ير يوماً كان أكثر باكياً من يومئذ، ذكراً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم. [سير أعلام النبلاء].
كما ثبت عن كثير منهم عند وفاتهم رضي الله عنهم قولهم: (غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه).
4- النبي أولاً وتفضيله عليه السلام على مَن سواه:
فقد أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما كان يوم أُحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم، استقبلت بهم أولاً، فلما مرَّت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أمامك، حتى دُفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب.
وفي رواية قالت: كل مصيبةٍبعدك جلل، أي هينة.قال ابن هشام: "الجلل يكون من القليل ومن الكثير، وهو ها هنا القليل".
وسئل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ).
5- التنافس في محبته:
فعن أسامة بن زيد عن أبيه قال: "اجتمععلي و جعفر و زيد بن حارثة فقال جعفر: أنا أحبكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال علي: أنا أحبكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال زيد: أناأحبكمإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله قال أسامة: فجاءوا يستأذنونه. فقال: أخرج فانظر من هؤلاءفقلت: هذا جعفر وعلي وزيد فقال: ائذن لهم فدخلوا، فقالوا: يا رسول الله من أحبإليك؟ قال: فاطمة، قالوا: نسألك عن الرجال فقال: " أما أنت يا جعفر فأشبه خلقك خلقي وأشبه خلقي خلقك وإنك مني وشجرتي، وأما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنا منكوأنتمني، وأما أنت يا زيد فمولاي ومني وإلي وأحب القوم إلي ".
قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم وبكوا.
6- محبة ما يحب صلى الله عليه وسلم:
فقد كان أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه يقول: (والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ أن أصل من قرابتي).
وقال عمر للعباس رضي الله عنهما: (أن تُسْلِم أحبّ إليَّ من أن يسلم الخطّاب؛ لأن ذلك أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأبيه: لم فضَّلْت أسامةَ عليَّ؟ فوالله ما سبقني إلى مشهد، قال: لأن زيدًا كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحبَّ إلى رسول الله منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي.
قال القاضي عياض: (فبالحقيقة من أحب شيئًا أحب كل شيء يحبه، وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدباء من يومئذ، وهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس وابن جعفر أتوا سلمى وسألوها أن تصنع لهم طعامًا مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ويصبغ بالصفرة إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل نحو ذلك).
7- حرصهم على سلامته من الأذى:
ومن ذلك قصة زيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى (التنعيم)، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهطاً من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان - حين قدم ليقتل -: أنشدك بالله - يا زيد - أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي!! فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ثم قتله نسطاس.
8- امتثال أمره: فالمحب لمن أحب مطيع.
ومن ذلك أن عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: " اجلسوا " فجلس مكانه خارجاً عن المسجد حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله ".
وعن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال: خطبت جارية من الأنصار فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: " رأيتها؟ " فقلت: لا، قال: " فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ". فأتيتها فذكرت ذلك لوالديهما، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقمت فخرجت، فقالت الجارية: علي الرجل، فوقفت ناحية خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر إليّ فانظر، وإلا فإني أُحرّج عليك أن تنظر، فنظرت إليها فتزوجتها فما تزوجت امرأة قط كانت أحب إلي منها ولا أكرم علي منها.
9- حرصهم على أن يكون أخر عهد لهم بالدنيا مس جسده المبارك:
فعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي صفوف المسلمين إذ لامس بطن سواد بن غزية بجريدة كانت بيده فقال سواد: لقد أوجعتني يا رسول الله!! فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريف وقال: " استقد مني يا سواد ". فأسرع سواد فاحتضن رسول الله ثم جعل يقبل كشحه، ثم قال: يا رسول الله، لقد ظننت أن هذا المقام هو آخر العهد بك، فأحببت أن يمس جلدي جلدك كي لا تمسني النار.
هذا غيض من فيض وإلا فإن سرد ذلك يطول، وأظن أن المعنى قد تقرر، وهو أن الصحابة قد أدوا الحق تجاه حب النبي صلى الله عليه وسلم ويبقى أداء هذا الحق معلق بذمتنا، فهل تظنون أن ذمتنا قد برأت تجاه هذا الحق وأدت واجب الحب تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم؟!